13 عاماً من البحث و70 شاهد.. كيف ضلل نظام الأسد أميركا في قضية الصحفي المفقود؟


وثقت صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية قصة معقدة امتدت لثلاثة عشر عاماً من المساومات والتضليل في قضية الصحفي الأميركي أوستن تايس المفقود في سوريا، كاشفة كيف استخدم نظام بشار الأسد المخلوع استراتيجيات متطورة لخداع الولايات المتحدة وإخفاء الحقيقة عن مصير الصحفي الذي اختفى عام 2012.
استند التحقيق الصحفي الموسع إلى مقابلات مع أكثر من سبعين شخصية متنوعة شملت مسؤولين حكوميين ودبلوماسيين وأصدقاء الصحفي المفقود، مقدماً صورة شاملة عن الجهود المضنية للعثور على تايس والمناورات السياسية التي حالت دون ذلك.
بدأت المأساة في أغسطس 2012 عندما قرر تايس، الجندي السابق في قوات مشاة البحرية الأميركية، دخول سوريا لتوثيق أحداث الثورة السورية. تنقل في المناطق الشمالية بمساعدة معارضين للنظام، ثم واصل رحلته الخطيرة نحو دمشق متنكراً أحياناً بزي نساء محجبات لتجاوز الحواجز الأمنية.
وصل تايس إلى مدينة داريا بريف دمشق حيث عاش مع مقاتلي الجيش السوري الحر، واحتفل بعيد ميلاده الحادي والثلاثين في أغسطس واصفاً تلك الليلة بأنها "أفضل عيد ميلاد في حياته"، دون أن يدرك أنها آخر أيام حريته. في الثالث عشر من أغسطس، انقطعت أخباره تماماً بعد أن التقط هاتفه الفضائي آخر إشارة له.
كشف التحقيق أن تايس أُوقف عند حاجز أمني في العاصمة دمشق بعد أن وشى به سائق سيارة أجرة، ليتم تسليمه إلى ضابط مخابرات النظام البارز بسام الحسن، والذي كُلف باستجوابه والتأكد من طبيعة مهمته. روايات منشقين عن مخابرات الأسد أكدت احتجازه في سجن مؤقت قرب مكتب الحسن، حيث شهد ضباط على جلسات استجوابه.
ابتكر نظام الأسد استراتيجية تضليل معقدة لإخفاء مسؤوليته عن اختطاف الصحفي الأميركي. رتّب النظام مسرحية مصورة عبر فيديو قصير نُشر في سبتمبر 2012، أظهر تايس معصوب العينين وسط رجال ملثمين يهتفون "الله أكبر"، في محاولة لإلصاق اختطافه بجماعات إسلامية متشددة. غير أن صحفيين أميركيين ودوليين كشفوا سريعاً زيف الفيديو، مشيرين إلى أنه محاولة فاشلة لتضليل العالم.
تمكن تايس لفترة وجيزة من الهروب من الاحتجاز، لكنه وقع مجدداً في قبضة النظام حين لجأ بالخطأ إلى حي يقطنه كبار المسؤولين الأمنيين، بينهم رئيس مكتب الأمن القومي لنظام الأسد علي مملوك. بعدها اختفى في أقبية النظام ولم تظهر له أي آثار حتى سقوط النظام.
تعامل نظام الأسد مع قضية تايس كورقة مساومة سياسية طوال السنوات التالية. على الرغم من نفي دمشق المتكرر لمسؤوليتها، إلا أن الوسطاء والدبلوماسيين كانوا يؤكدون احتجازه لدى الأجهزة الأمنية السورية. في مطلع 2013، نقل نائب وزير خارجية الأسد آنذاك فيصل المقداد للوسيط الأميركي ريان كروكر وعوداً بأن الإفراج سيكون قريباً.
لكن هذه الوعود تحولت إلى مماطلات لا تنتهي، حيث جاءت رسائل عبر وسطاء بأن إطلاق سراحه سيتم "الأسبوع المقبل"، إلا أن هذه الوعود تبخرت مع تأجيلات وأعذار متكررة. كانت عائلة تايس تعيش على وقع الأمل والخيبة في آن واحد، بينما ظل النظام ينكر احتجازه رسمياً.
امتدت جهود البحث عبر أربع إدارات أميركية متعاقبة، حيث حاول كل من باراك أوباما ودونالد ترامب وجو بايدن دفع نظام الأسد للإفراج عنه. نُظمت لقاءات سرية بين مسؤولين من وكالة المخابرات المركزية الأميركية ونظرائهم من النظام السوري في عمان ومسقط ودمشق، كما استخدمت واشنطن وسطاء لبنانيين مقربين من الأسد.
وصلت المحاولات الدبلوماسية إلى حد عرض تسهيلات طبية لأسماء الأسد، زوجة بشار التي كانت تعاني السرطان، كحافز لإطلاق سراح الصحفي. لكن الأسد ظل يكرر الرواية ذاتها بأن حكومته "لا تعرف عنه شيئاً". رغم عرض مكافأة أميركية قدرها عشرة ملايين دولار مقابل أي معلومة، لم تُحرز أي نتيجة ملموسة.
ظلت أجهزة الاستخبارات الأميركية حتى عام 2024 تقدّر أن تايس على قيد الحياة، قبل أن تغيّر موقفها بعد سقوط نظام الأسد مع غياب أي دليل على وجوده في السجون المحررة. مع سقوط النظام في ديسمبر 2024، تنفست عائلة تايس الصعداء متأملة ظهوره بين آلاف المعتقلين المحررين، غير أن الصدمة كانت قاسية بعدم العثور على أي أثر له.
في أبريل 2025، ظهر اسم ضابط المخابرات السابق بسام الحسن مجدداً حين زار السفارة الأميركية في بيروت، مدعياً أن الأسد أمره بقتل تايس في عام 2013. لكن المسؤولين الأميركيين والسوريين الجدد شككوا في روايته، معتبرين أنها قد تكون جزءاً من حملة تضليل جديدة، خاصة أن الحسن غادر لاحقاً إلى إيران.
أشار الحسن إلى مكان محتمل لدفن جثمان تايس، لكن السلطات الأميركية لم تتمكن من التنقيب بعد بذريعة الحاجة لمعدات خاصة ومخاوف أمنية. تتعاون الحكومة السورية الجديدة حالياً مع الجهود الأميركية للعثور على تايس، حيث أكد مسؤول أمني سوري رفيع المستوى أن المحققين يتابعون خيطاً جديداً بناء على مقابلات أُجريت مؤخراً مع اثنين من مساعدي الحسن.
عبّرت والدة تايس ديبرا عن خيبة أملها العميقة بعد اطلاعها على وثائق سرية العام الماضي، قائلة إن حكومتها لم تكن "مدافعة جيدة عن أوستن". تؤكد العائلة أن السنوات الطويلة من مماطلة الإدارات الأميركية المتعاقبة ونظام الأسد كانت بمثابة "مسرحية هزلية" تركت مصير ابنها معلقاً بين الأمل واليأس.
سيتم تحسين تجربتنا على هذا الموقع من خلال السماح بملفات تعريف الارتباط