قم بمشاركة المقال

whatsapp icon facebook icon twitter icon telegram icon

مخطوطات درويش الأصلية تكشف أسرار الشعر الفلسطيني من 1964 إلى 2008

مخطوطات درويش الأصلية تكشف أسرار الشعر الفلسطيني من 1964 إلى 2008
نشر: verified icon

سياق سعودي

25 أغسطس 2025 الساعة 02:45 مساءاً

شهدت السنوات الأخيرة اكتشافًا استثنائيًا في عالم الأدب الفلسطيني، حيث ظهرت مخطوطات أصلية نادرة للشاعر الراحل محمود درويش، مكتوبة بخط يده من الفترة الممتدة بين 1964 و2008. هذه الوثائق الثمينة كشفت النقاب عن أسرار جديدة في رحلة الشعر الفلسطيني وتطور مسيرة أبرز شعرائه.

تمكن الأستاذ محمد ميعاري من الاحتفاظ بهذه المخطوطات في مدينة حيفا لعقود طويلة، قبل أن تتولى الكاتبة والمخرجة امتياز دياب مهمة جمعها وتوثيقها في كتاب مميز حمل عنوان "ميلاد الكلمات". هذا الكنز الأدبي يضم بين طياته مسودات لأشهر قصائد درويش، بما في ذلك "سجل أنا عربي" المعروفة باسم "بطاقة هوية" و"أحن إلى خبز أمي" التي أصبحت من أبرز النصوص في ديوان الشعر العربي المعاصر.

تكشف هذه المخطوطات طبيعة العملية الإبداعية لدى الشاعر الذي ولد عام 1941 في قرية البروة الفلسطينية، وعاش تجربة النكبة منذ طفولته المبكرة. فالأوراق المكتشفة تحمل آثار التجربة الحياتية الصعبة التي واجهها درويش تحت الحكم العسكري الإسرائيلي، حيث كان يخضع لنظام صارم من المراقبة وتقييد الحركة.

تتضمن المجموعة المكتشفة رسائل شخصية وأوراقًا خاصة تُظهر الجانب الإنساني من شخصية الشاعر وعلاقاته مع الأصدقاء والمثقفين في تلك الحقبة. هذه الوثائق توفر نافذة فريدة لفهم السياق الاجتماعي والسياسي الذي أنتج فيه درويش أعماله الأولى، خاصة في الفترة التي أعقبت صدور ديوان "أوراق الزيتون" عام 1964.

يبرز في هذه المخطوطات بوضوح تأثير البيئة الفلسطينية على تشكيل وعي الشاعر الأدبي. فالقصائد المكتوبة بين عامي 1964 و1966 تعكس مرحلة تكوينية حاسمة في مسيرة درويش، حيث تطور أسلوبه من الشعر المقاوم المباشر إلى صيغ أكثر تعقيدًا وعمقًا فنيًا. هذا التطور يظهر جليًا في الفروق بين المسودات الأولى والنسخ النهائية من قصائده.

تشير الدراسات التي أجريت على هذه المخطوطات إلى أن درويش كان يعيد صياغة أبياته مرارًا وتكرارًا، ساعيًا للوصول إلى أقصى درجات التعبير الشعري. هذه العملية الدقيقة في النحت اللغوي تفسر السبب وراء قوة تأثير قصائده على الجمهور العربي والعالمي، حيث ترجمت أعماله إلى عشرات اللغات.

من الناحية التاريخية، تكتسب هذه المخطوطات أهمية خاصة لأنها توثق فترة الحكم العسكري التي فُرضت على المواطنين العرب في إسرائيل بين عامي 1948 و1966. خلال هذه الفترة، كانت الحركة مقيدة بشدة، وكان على الشعراء والمثقفين الحصول على تصاريح للانتقال بين المدن، مما جعل العمل الثقافي نضالًا حقيقيًا.

تروي المخطوطات قصة شاعر شاب واجه التحديات بالكلمة، محولًا معاناته الشخصية إلى صوت جماعي للشعب الفلسطيني. فقصيدة "بطاقة هوية" التي أُلقيت في مهرجان الناصرة، تحولت من نص شعري إلى بيان سياسي وثقافي، عبر عن رفض محاولات طمس الهوية الفلسطينية.

تظهر الكتابات الجانبية والملاحظات على هوامش المخطوطات أن درويش كان مهتمًا بربط تجربته الفردية بالتجربة الجماعية للشعب الفلسطيني. هذا النهج جعل شعره يتجاوز حدود التعبير الذاتي ليصبح مرآة لحالة شعب بأكمله، مما يفسر الصدى الواسع الذي لاقته أعماله.

على صعيد التطور الفني، تكشف المخطوطات عن تجريب مستمر في الأشكال الشعرية والبحور العروضية. فدرويش الذي بدأ بالشعر التقليدي ذي النبرة الخطابية، تطور تدريجيًا نحو أساليب أكثر حداثة، مستفيدًا من تجربته في القاهرة وبيروت وباريس.

تسلط الأوراق المكتشفة الضوء أيضًا على الدور المحوري الذي لعبته مدينة حيفا في تشكيل وعي الشاعر. فالمدينة التي شهدت بداياته الأدبية احتفظت بذاكرة مكتوبة لتلك المرحلة، مما يؤكد العلاقة العميقة بين المكان والإبداع في تجربة درويش.

من ناحية أخرى، تبرز هذه الوثائق أهمية الحفاظ على التراث الثقافي الفلسطيني في ظل محاولات الطمس والإنكار. فوجود هذه المخطوطات بخط الشاعر يشكل دليلًا ماديًا على استمرارية الثقافة الفلسطينية وحيويتها، رغم كل المحاولات لقطع جذورها.

تتضمن المجموعة أيضًا مراسلات مع شعراء ومثقفين آخرين من الجيل نفسه، مما يوفر صورة شاملة عن الحياة الثقافية في فلسطين خلال الستينيات. هذه المراسلات تكشف عن شبكة من العلاقات الأدبية والفكرية التي ساهمت في تطوير الحركة الثقافية الفلسطينية.

إن اكتشاف هذه المخطوطات يأتي في وقت تشهد فيه القضية الفلسطينية تطورات مهمة على الساحة العالمية، مما يعطي أهمية إضافية لتوثيق هذا التراث وحفظه للأجيال القادمة. فالشعر الذي كان سلاحًا في مواجهة الاضطهاد أصبح اليوم جسرًا ثقافيًا يربط فلسطين بالعالم.

تمثل هذه المخطوطات كنزًا حقيقيًا للباحثين والدارسين، حيث توفر مادة خام لفهم عملية التطور الشعري عند أحد أهم شعراء العربية في القرن العشرين. كما تقدم نموذجًا لكيفية تحويل التجربة الشخصية المؤلمة إلى إبداع فني يتخطى حدود الزمان والمكان.

في النهاية، تؤكد هذه الاكتشافات أن الشعر الفلسطيني ليس مجرد تعبير عن المعاناة، بل هو شهادة على قدرة الإنسان على تحويل الألم إلى جمال، والظلم إلى عدالة شعرية. وتبقى مخطوطات درويش الأصلية شاهدًا على رحلة إبداعية استثنائية، بدأت من قرية صغيرة مدمرة وانتهت إلى العالمية.

قم بمشاركة المقال

whatsapp icon facebook icon twitter icon telegram icon

المزيــــــد