لأن التقلبات العالمية تهدد الاستقرار المعيشي: الأردن يثبّت أسعار الغاز ويُشدد الرقابة لحماية المواطنين

في عالم تتصاعد فيه أزمات الطاقة وتتقلب أسعارها بوتيرة محمومة، تبرز التجربة الأردنية كنموذج متميز للحوكمة الاقتصادية الذكية. فبينما تشهد عواصم المنطقة احتجاجات شعبية ضد ارتفاع أسعار الطاقة، تتخذ عمّان مساراً مختلفاً: تثبيت سعر أسطوانة الغاز المنزلي عند 7 دنانير، مصحوباً بحملة صارمة لمكافحة التلاعب والغش. هذا القرار ليس مجرد إجراء اقتصادي روتيني، بل يعكس فلسفة حكومية شاملة تضع حماية المواطن في قلب السياسات العامة، وتدرك أن الاستقرار الاجتماعي مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالأمن الطاقوي.
تشكل تقلبات أسعار الطاقة العالمية تحدياً وجودياً للاقتصادات النامية، خاصة تلك التي تعتمد على الاستيراد بنسبة تتجاوز 95% مثل الأردن. فعندما يتذبذب سعر خام برنت بين 70.9 و71.6 دولار للبرميل خلال شهرين متتاليين، كما حدث مؤخراً، فإن الأثر لا يقتصر على ميزانيات الحكومات، بل يمتد ليطال جيوب الأسر ويهدد استقرارها المعيشي. هذا التحدي يتضاعف في ظل ارتفاع كلفة النقل البحري، وتقلب أسعار صرف العملات، والضغوط الجيوسياسية التي تجعل من الطاقة ورقة ضغط سياسي.
في هذا السياق المعقد، كان الأردن يواجه خلال الأشهر الأولى من 2025 موجة من التقلبات في أسعار المشتقات النفطية، حيث شهدت أشهر يناير وفبراير ارتفاعات ملحوظة أثارت قلق المواطنين وأصحاب الأعمال على حد سواء. هذه التقلبات لم تكن مجرد أرقام على الورق، بل انعكست مباشرة على أجور النقل، وأسعار السلع الأساسية، وفواتير الكهرباء والتدفئة، ما خلق حالة من عدم اليقين الاقتصادي تهدد التخطيط المالي للأسر والشركات. كما أن هذه التقلبات تضع ضغوطاً إضافية على الطبقات الأكثر هشاشة في المجتمع، خاصة الأسر محدودة الدخل التي تنفق نسبة أكبر من دخلها على الطاقة والنقل.
يأتي قرار تثبيت سعر أسطوانة الغاز المنزلي عند 7 دنانير كجزء من نهج حكومي أوسع يهدف إلى تحقيق التوازن بين الواقعية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية. هذا القرار، الذي اتخذته لجنة تسعير المشتقات النفطية، لا يعكس مجرد سياسة دعم تقليدية، بل يجسد فهماً عميقاً لأهمية الاستقرار في بناء الثقة الاقتصادية. فعندما تعرف الأسر الأردنية أن تكلفة الطبخ والتدفئة ستبقى ثابتة، فإنها تستطيع التخطيط بشكل أفضل لميزانياتها، وتصبح أكثر قدرة على الاستثمار في جوانب أخرى من حياتها مثل التعليم والصحة.
هذا النهج يكتسب أهمية خاصة عندما ننظر إليه في سياق التحولات الأوسع في أسعار المشتقات الأخرى. فبينما شهدت أسعار البنزين تخفيضات في بعض الأشهر - حيث انخفض سعر البنزين أوكتان 90 من 860 إلى 850 فلساً للتر، وأوكتان 95 من 1085 إلى 1075 فلساً - إلا أن ارتفاع سعر الديزل بمقدار 15 فلساً ليصل إلى 690 فلساً للتر يظهر أن الحكومة تتعامل مع كل منتج طاقوي وفقاً لخصوصيته وأهميته الاجتماعية. الغاز المنزلي، بصفته حاجة أساسية لا غنى عنها لجميع الأسر، يحظى بأولوية خاصة في سياسة الحماية الاجتماعية.
علاوة على ذلك، فإن استراتيجية التثبيت تعكس نضجاً في فهم آليات السوق والسياسة المالية. فبدلاً من الاستجابة الفورية لكل تقلب في الأسعار العالمية - وهو ما قد يخلق حالة من عدم الاستقرار والتذبذب المستمر - تختار الحكومة امتصاص هذه التقلبات من خلال آليات مالية تحمي المواطن دون المساس بالاستدامة المالية طويلة المدى. هذا النهج يتطلب تخطيطاً دقيقاً وإدارة محترفة للموارد، ويظهر قدرة الدولة على التوازن بين الضرورات الاجتماعية والالتزامات المالية.
لكن تثبيت الأسعار وحده لا يضمن وصول الفائدة الحقيقية للمواطنين، خاصة في ظل وجود ممارسات احتيالية قد تحرم المستهلك من حقه في منتج بالوزن والجودة المطلوبين. من هنا تأتي أهمية الحملة الصارمة التي أطلقتها مؤسسة المواصفات والمقاييس لمكافحة التلاعب في أوزان أسطوانات الغاز. هذه الحملة، التي يقودها عبدالكريم الحراحشة مساعد المدير العام للشؤون الفنية، تمثل الوجه الثاني للسياسة الحكومية: فبينما تحمي الدولة المواطن من تقلبات الأسعار العالمية، فإنها تحميه أيضاً من جشع التجار المحليين وممارساتهم الاحتيالية.
العقوبات المعلنة تبدو رادعة وشاملة: مصادرة الأسطوانات، إحالة المخالفين إلى الجهات القضائية، إغلاق الوكالة لمدة شهرين في المخالفة الأولى، وتمديد العقوبة إلى ستة أشهر في حال التكرار. هذا التصعيد المدروس في العقوبات يظهر أن الدولة تتعامل مع هذه المسألة بجدية تامة، وأنها لن تسمح لأحد بالإفادة من السياسة الحمائية على حساب المواطنين. كما أن هذه الإجراءات تبعث برسالة واضحة للسوق مفادها أن العدالة والشفافية ليستا مجرد شعارات، بل ممارسات فعلية تطبقها الدولة بحزم.
ما يميز هذا النهج هو شموليته وتكامله. فالحكومة لا تكتفي بحماية المواطن من العوامل الخارجية فحسب، بل تواجه أيضاً التحديات الداخلية التي قد تقوض فعالية سياساتها. هذا يعكس فهماً عميقاً لطبيعة السوق ولضرورة وجود آليات رقابية فعالة تضمن تطبيق السياسات كما صُممت. إن مثل هذا النهج المتكامل هو ما يفرق بين السياسات الناجحة والسياسات التي تبقى حبراً على ورق.
إن النجاح في إدارة أزمة أسعار الطاقة الحالية يمهد الطريق لتحولات أكبر في القطاع الطاقوي الأردني. فالاستقرار الذي تحققه السياسة الحالية يوفر بيئة مناسبة للتخطيط طويل المدى والاستثمار في حلول طاقوية بديلة ومستدامة. هذا مهم بشكل خاص في ضوء التوجه العالمي نحو الطاقة المتجددة والهيدروجين الأخضر، حيث يمكن للأردن أن يستفيد من موقعه الجغرافي وموارده الشمسية الهائلة لبناء اقتصاد طاقوي جديد يقلل الاعتماد على الاستيراد.
كما أن النموذج الأردني في إدارة أسعار الطاقة يكتسب أهمية إقليمية متزايدة. فبينما تواجه دول المنطقة تحديات مشابهة، يقدم الأردن مثالاً على إمكانية تحقيق التوازن بين الاستقرار الاجتماعي والاستدامة المالية. هذا يعزز من مكانة المملكة كنموذج للحوكمة الرشيدة والسياسات الاقتصادية المتوازنة، ما قد يجذب استثمارات إضافية ويفتح فرصاً جديدة للتعاون الإقليمي في مجال الطاقة.
إن الدروس المستفادة من التجربة الأردنية تتجاوز حدود الطاقة لتشمل فلسفة أوسع في إدارة الشؤون العامة. فالنهج المتكامل الذي يجمع بين الحماية الاجتماعية والفعالية الاقتصادية والرقابة الصارمة، يمكن أن يُطبق في قطاعات أخرى مثل الغذاء والدواء والإسكان. هذا يعني أن نجاح السياسة الطاقوية الحالية قد يكون بداية لتحول أشمل نحو نموذج حكومي أكثر استجابة وفعالية، نموذج يضع المواطن في المركز دون إهمال الواقعية الاقتصادية والاستدامة المالية.
سيتم تحسين تجربتنا على هذا الموقع من خلال السماح بملفات تعريف الارتباط